فصل: تفسير الآيات (36- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (36- 40):

{وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)}.
التفسير:
فى هذه الآيات عرض موجز معجز، لقصص بعض الأنبياء، الذين كذّبوا من أقوامهم، وما أخذ اللّه به هؤلاء المكذبين من نكال وعذاب.. وفي هذا العرض الموجز ترتسم الأحداث في أعين المشركين، وتتجسد في خواطرهم، بحيث تبدو كأنها حدث واحد، يعرض عرضا كاشفا لجميع وجوهه.
قوله تعالى: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ}.
إنه في نظرة واحدة نطوى صفحة مجتمع فاسد.. ففى هذا العرض يختصر الزمان، وتجتمع أطرافه كلها في البؤرة التي كانت تدور حولها الأحداث سنين طويلة.
فهذا شعيب، يلقى كلمته الأخيرة إلى قومه.. وهؤلاء القوم قد أعطوه جوابهم الأخير أيضا.. وهذا هو حكم اللّه فيما بين الطرفين.. {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ}.
قوله تعالى: {وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}.
وهذان مجتمعان كبيران، من مجتمعات الضلال.. بينا تراهم العين في دورهم العامرة، ودنياهم المزهرة، ثم يرتد الطرف إليهم، فلا يجد إلا خرابا شاملا، وإلا قفرا موحشا.
إنه لم يذكر عن عاد وثمود ما كان من دعوة الرسولين الكريمين إليهما، وما كان من القوم من رد فاجر آثم على هذه الدعوة.. كما أنه لم يذكر ما حل بهما من نقم اللّه.. إذ كان الأمر ماثلا للعيان.
فهذه هي مساكن القوم، يراها المشركون، وقد صارت أثرا بعد عين {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ}.
أي انظروا ماذا بقي من دنيا القوم الظالمين.. ثم احكموا.. وما راء كمن سمعا!.
قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}.
الفهم الذي أستريح إليه في هذا المقطع من الآية الكريمة، أنه تعقيب على هذا الخطاب الموجه إلى المخاطبين بهذه الآية، في قوله: {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ}.
وفي هذا التعقيب، اتهام للمشركين بما بينهم وبين الشيطان من تفاهم، وتوافق، وأنهم أتباع مخلصون له، مطيعون ما يشير به.. فهم مع ما تبين لهم من هذا البلاء الذي رمى به اللّه عادا وثمود، وما ترك هذا البلاء وراءهم من خراب ودمار- هم مع هذا لا يعدلون عن طريقهم الضال الذي ركبوه، ولا يلقون السمع إلى ما يتلو عليهم الرسول من آيات.
وفي عطف {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ} على قوله تعالى: {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ} أمران:
أولهما: الإشارة إلى التقاء الهدى والضلال في نفوس المشركين، لقاء موافقة وائتلاف، إذ لا فرق بين الهدى والضلال عندهم، وأن النور الذي يساق إليهم من الآيات سرعان ما يشتمل عليه الظلام، ويمتزج به.. فما تبين للقوم من مساكن القوم، وما في ذلك من دلائل تدعو إلى الإيمان واتباع سبيل المؤمنين- قد اختلط بما وسوس لهم به الشيطان، ثم سرعان ما اختفى هذا البيان، الذي استبان لهم، واستولى الشيطان عليهم، فصدهم عن سبيل اللّه.
وثانيهما: العدول عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}.
هو لعزلهم عن مقام الخطاب، وما فيه من تشريف، ووضعهم بالمكان الذي يشار إليهم منه، حيث يسمع المؤمنون حكم اللّه، تعالى فيهم بقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ}.
فالخطاب كان عاما للمؤمنين والمشركين، في قوله تعالى: {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ}.
ثم كان خطابا خاصا بعد ذلك للمشركين {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ} فلم ينتفعوا بما رأوا من آثار القوم الهالكين، فصدهم عن سبيل اللّه، في حال استبصارهم، ووضعهم أمام تلك الآيات المبصرة. كما يقول سبحانه: {هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [20: الجاثية].
ولو أنه قد جاء النظم على أسلوب الخطاب، لكان المؤمنون داخلين في- قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ} إذ لو جاء النظم هكذا. {وزين لكم الشيطان أعمالكم} لكان الحكم عاما، يشمل المؤمنين وغير المؤمنين.
كما في قوله تعالى: {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ} حيث كان هذا البيان واقعا للمؤمنين وغير لمؤمنين.. أما لمؤمنون فقد انتفعوا به وكان لهم منه عبرة وعظة.. وأما المشركون، فقد أفسد عليهم الشيطان أمرهم، وأطفأ بنفثاته في صدورهم، ما قبسوا من عبرة وعظة، وجدوها في هذه الدور الخاوية على عروشها.
قوله تعالى: {وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ}.
فى الآية دليل، على أن قرون قد هلك قبل هلاك فرعون، وهذا يعنى أنه هلك وموسى وبنو إسرائيل لم يخرجوا من مصر بعد- وهذا ما أشرنا إليه في سورة القصص في شرح قوله تعالى: {إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ} وقوله تعالى: {وَما كانُوا سابِقِينَ} أي أنهم بما كان لهم من قوة وسلطان، لم؟؟؟ لتوا من عقاب اللّه الراصد لهم. ولم يجدوا وجها للفرار من العذاب الذي أرسله اللّه عليهم.
قوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا}.
هذا بيان لصور العذاب، وألوانه التي حلت بالقوم الظالمين.. فهم وإن وقع بهم العذاب جميعا، إلا أن كل قوم قد شربوا من هذا العذاب، بكأس غير الكأس التي شرب بها غيرهم.
والحاصب، وهو ما يحصب به، أي يرمى به من حصى وغيره.. ومنه الحصباء، وهو صغار الحصى. ومنه قوله تعالى: {حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ} [98: الأنبياء] أي أنهم يلقون فيها كما يلقى الحصى!.
وهذا الضرب من العذاب، هو ما أخذ به قوم لوط، إذ رماهم اللّه بحجارة من سجيل، وهو الذي أخذ به من قبل، قوم صالح، إذ أهلكوا بريح صرصر عاتية، فكانت كأنها رجوم.
والصيحة، وهي الرجفة، هي العذاب الذي أهلك به قوم عاد، إذ صلح فيهم صائح، فزلزل بهم الأرض، وهدم عليهم دورهم.
والخسف، هو ما حل بقارون.. والغرق، هو ما هلك به فرعون وهامان.

.تفسير الآيات (41- 45):

{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)}.
التفسير:
قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.
مناسبة هذا المثل هنا، هو أنه لما ذكر اللّه سبحانه وتعالى بعضا من تلك الأقوام الضالة، التي كذبت برسل اللّه، واستمسكت بما كانت عليه من شرك- كان هذا المثل مرآة يرى عليها الناس- وخاصة أولئك الذين غلظت طباعهم، وتبلدت مشاعرهم- صورة مجسدة لهؤلاء المشركين وما عبدوا من دون اللّه.
إن هؤلاء المشركين، كالعنكبوت.. في ضعفها وصغر شأنها.
فهؤلاء المشركون، هم في يد القدرة القادرة، وإزاء سلطان اللّه الغالب القاهر- أقل من العنكبوت شأنا، وأضعف منها حيلة وحولا.
ثم إن هؤلاء المشركين في ضعفهم وصغر شأنهم، قد اتخذوا من الأصنام، وغير الأصنام، آلهة يعبدونها من دون اللّه، ليكون لهم منها قوة وسندا- كما يقول سبحانه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [81: مريم] فكان مثلهم في ذلك مثل العنكبوت، حين تتخذ لها بيتا، تقيمه حولها، وتسكن إليه، وتحتمى به.. إنه لا يثبت لأية لمسة من ربح عابرة، أو حشرة طائرة.. وإن هذه الآلهة التي دخل القوم في حماها، لهى أو هي من بيت العنكبوت، لا تدفع عن الداخلين في حماها أذى، ولا ترد شرا.
وفي قوله تعالى: {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.
وصف للقوم بالصفة الغالبة عليهم، وهي الجهل، لأنهم لو كانوا على أي قدر من العلم، لما ارتضوا أن ينسجوا من هذا الضلال دروعا يحتمون بها من رميات القدر.
وفي تشبيه آلهة القوم بنسيج العنكبوت، إعجاز من إعجاز القرآن، إذ أن العنكبوت إنما تتخذ بيتها من خيوط رفيعة هي لعابها الذي إذا لامس الهواء تماسك في صورة خيوط دقيقة واهية.. وهؤلاء المشركون إنما أقاموا معتقدهم الفاسد الذي يعتقدونه، ويلتمسون الطمأنينة والأمن في ظله- إنما أقاموا من تلك الأبخرة العفنة التي تتصاعد من مشاعرهم، فتتشكل منها تلك الأوهام الخادعة، ويقوم عليها هذا البناء المتداعى!! قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
هو بيان لعلم اللّه بهم وبما يعبدون من أباطيل، لا وزن لها، مع عزة اللّه، ولا تدبير لها، مع تدبيره المحكم.
ويمكن أن يكون للآية مفهوم آخر، وهو أن تكون {ما} نافية.
ويكون مفعول العلم مطلقا، بمعنى أن اللّه يعلم كل شيء.. وقوله تعالى: {ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} نفى لوجود هذه المعبودات، أي أنها لضالتها، وعدم جداوها لهم، لا تعدّ شيئا.. أما اللّه سبحانه، الذي أعرضوا عنه، فهو العزيز الحكيم.
قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ} الإشارة هنا، هي إلى هذا المثل المضروب، وإلى تلك الأمثال التي يضربها اللّه للناس، ليروا فيها مواقع العبرة والعظة، وليكون لهم منها طريق إلى الحق والهدى.. ولكن هذه الأمثال لا يعقلها، ولا ينتفع بما يعقل منها إلا أهل العلم.. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا} [26: البقرة] قوله تعالى: {خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} هو بيان لما أبدع اللّه {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وما أقام في هذا الوجود من عوالم، وما بث في هذه العوالم من مخلوقات.. وفي هذا الوجود، وعوالمه ومخلوقاته، صحف يتلو فيها المؤمنون آيات اللّه، ويسبحون بحمده، في كل نظرة ينظرون بها، وفي كل نفس يتنفسونه، وفي كل خاطر يخطر لهم: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ} [190: 191: آل عمران] قوله تعالى: {اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ} ومن آيات اللّه، تلك الآيات المتلوة، التي هي كلماته، التي أوحاها سبحانه إلى نبيه الكريم.. إنها تناظر تلك الآيات المبثوثة في السموات والأرض.. في كل منها شاهد يشهد لجلال اللّه وقدرته، وعلمه وحكمته.
وفي أمر النبي بتلاوة ما أوحى إليه من الكتاب- إلفات للعقول إلى هذه الآيات القرآنية، بعد إلفات الأبصار إلى الآيات الكونية، فيكون من هذه وتلك لقاء بين المحسوس والمعقول، وبهذا تكتمل المعرفة، وتثبت قضايا العلم فيقع للإنسان من ذلك علم يقينى، يقوم عليه إيمانه باللّه رب العالمين.
وفي قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} إشارة إلى ما للصلاة من شأن في وصل العبد بربه، وفي قيادته نحو الطريق القاصد إلى اللّه.. إذ كانت تسبيحا بحمده، وتمجيدا لجلاله.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ} إشارة إلى الأثر الذي تتركه الصلاة في المصلين: من إيقاظ المشاعر الطيبة في الإنسان، تلك المشاعر التي تعاف الفحشاء، وتنفر من المنكر.
وقوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}.
المراد بالذكر هنا، استحضار عظمة اللّه، وجلاله في الصلاة، حيث يكون الإنسان في صلاته في حال من الخشوع، والتخاضع بين يدى اللّه، لما يملأ قلبه من جلال اللّه وعظمته، وهذا هو الذي يجعل للصلاة ثمرا طيبا مباركا، يذوق الإنسان منه حلاوة الإيمان، ويستروح منه أنسام التقوى، وبذلك يدخل في عباد اللّه المفلحين المكرمين.. كما يقول سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ} [1: المؤمنون] فالصلاة التي لا يحضرها ذكر اللّه، ولا يغشاها الخشوع والرهب، ولا تظللها سكينة النفس، وطمأنينة القلب- هي صلاة قليلة الثمر، ضثيلة الأثر.. يقول اللّه سبحانه لموسى عليه السلام: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [14: طه] أي لتذكرنى بها.
وإذا كان ذكر اللّه مطلوبا في كل حال، في الصلاة وفي غير الصلاة، فإن ذكره سبحانه في الصلاة، أولى وأوجب.. إذ كانت الصلاة في ذاتها ذكر اللّه.. فالذكر في مقام الذكر أولى، وأوجب، وأنفع.
هذا، وقد يصغر شأن الصلاة عند من ينظرون إلى كثير من المصلين، فلا يجدون للصلاة أثرا عليهم في سلوكهم، حيث لم تنههم صلاتهم عن فحشاء أو منكر.. ففى المصلين من يكذب، وفي المصلين من يشهد الزور، وفي المصلين من يبخس الكيل والميزان، وفي المصلين من يشرب الخمر، وفي المصلين من يزنى، ومن يسرق... ومن، ومن.
ونعم، في المصلين، من هم على هذا الوصف الذميم.. وليس ذلك لعلة في الصلاة، وإنما العلة كامنة في المصلّى نفسه، لأنه يصلى بجسمه، ولا يصلى بعقله، وقلبه، وروحه، فلا يذكر اللّه في صلاته ذكرا يملأ كيانه خشوعا، وجلالا.
ومع هذا، فإن مداومة الصلاة، والحرص على أدائها في أوقاتها، ستصل بالمصلّي يوما وإن طال به الطريق، إلى الثمرة الطبية التي وعد اللّه المصلين بها، وهي الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.
وفي هذا يقول الرسول الكريم فيمن بلغه عنه أنه يصلى، ولا ينتهى عن الفحشاء والمنكر- يقول صلوات اللّه وسلامه عليه: «دعوه.. فإن صلاته ستنهاه يوما ما» واللّه يقول الحق، وهو يهدى السبيل.

.تفسير الآيات (46- 51):

{وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها هي أن الآية السابقة عليها، جاءت داعية النبيّ الكريم أن يتلو ما يوحى إليه من ربه، وأن يقيم الصلاة قياما يحدث في القلب ذكرا للّه، وبهذا يكون للصلاة ثمرتها في نهى المصلى عن الفحشاء والمنكر، إذ كان ذكر اللّه حاضرا في قلبه مستوليا على مشاعره، يملأ كيانه خشية، وخوفا، من العدوان على حدود رب العالمين.
وهذا الأمر الذي حملته الآية: {اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ} وإن كان دعوة للنبى الكريم، فهو أمر للمؤمنين باللّه، الذين اتبعوا النبي، ودانوا بالشريعة التي جاءهم بها من ربه.
ومن محامل هذه الدعوة تلاوة ما أوحى إلى النبي من آيات اللّه، على أهل الكتاب، وتبليغهم رسالة الإسلام، إذ ليس المراد من التلاوة، مجرد التلاوة، وإنما المراد هنا، إعلان الناس بها، وإسماعهم آيات اللّه وكلماته.
وأهل الكتاب حين يسمعون كلمات اللّه التي يتلوها النبي والمؤمنون، لا يلقونها على وجه واحد.. فكثير منهم يلقونها بالبهت والتكذيب، وقليل منهم أولئك الذين يلقونها بالقبول والتسليم.
وإذ كانت الدعوة الإسلامية قائمة على الحجة والإقناع، وبين يديها الحجة القاطعة والبرهان المبين- فإن أي عقل سلم من آفات الهوى، وخلص من أسر الضلال، لا يجد سبيلا إلى المماحكة والمجادلة في آيات اللّه، بل يستجيب لها، ويسلم زمامه إليها... أما من كان في عقله سقم، وفى قلبه مرض فلن يذعن للحق، ولن يأخذ طريقه أبدا... شأنه في هذا شأن أصحاب العلل والآفات، التي تصيب العيون بالعمى، والآذان بالصمم، والأنوف بالزكام، والأفواه بالبخر...!
ومن هنا كان الذين يجادلون في آيات اللّه من أهل الكتاب، إنما يجادلون في حق يعرفونه، ويمارون في آيات يعلمون صدقها.. ومن كان هذا شأنه فخير موقف يتخذ معه، هو الإعراض عنه، وترك الجدل معه، لأن الجدل في هذا المقام، عقبم، وإن ولد شيئا، فإنما يلد دخانا ينعقد في سماء الحق، ويشغل القائمين على رسالته عما هو أنفع وأجدى... ولهذا كان من دعوة السماء إلى النبي الكريم قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} [199: الأعراف].
فقوله تعالى: {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} هو بيان للموقف الذي يأخذه المؤمنون من أهل الكتاب فيما يكون بينهم من مواقف، تثار فيها بينهم قضايا، تتصل بالدين، عقيدة أو شريعة.
وهو أن يعرض المسلمون حقائق الإسلام كما حملتها آيات اللّه، بمنطق الناصح المرشد، لا المملى ولا المسيطر... {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها}.
إنه خير يدعى إليه الناس، ولا يحملون عليه حملا.
ومتى كان المحسن يأخذ المحتاج إلى إحسانه، بالقهر والقسر؟ وحسبه أن يمد إليه يده بما تحمل من إحسان، فإن تجاوز ذلك إلى ما يثير عداوة وبغضاء، انقلب الإحسان إساءة، والخير شرا.
والجدل، والمجادلة تكون باللسان، ومقارعة الحجة بالحجة، والأصل فيها القوة، يقال حبل مجدول، إذا كان مفتولا من حبلين، ولهذا سمى الصقر أجدل، لقوته وشدته.
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} هذا استثناء من الحكم العام، في الدعوة إلى سبيل اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك الاستثناء في شأن الذين يلقون تلك الدعوة بالشغب عليها، والتطاول على أهلها، والكيد لها ولهم.
إن الأمر حينئذ يخرج عن هذا المجال، إلى رد عدوان، ودفع ظلم، وردع بغى... واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [125- 126: النحل].
والذين ظلموا من أهل الكتاب، هم أولئك الذين امتلأت قلوبهم ضغينة على الإسلام، وحقدا عليه، فكانوا حربا على المسلمين والإسلام، بالكيد والفتنة، وإشعال نار الحرب الظاهرة والخفية على رسول اللّه وعلى المؤمنين... ولهذا كان وصفهم بالظلم، كاشفا عن عدوانهم وبغيهم، إنهم معتدون لا معتدى عليهم، وظالمون غير مظلومين، فإذا أخذوا بعدوانهم، وبظلمهم، فذلك بما جنته أيديهم: {فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [193: البقرة].
أما الأسلوب الذي تجرى عليه معاملة هؤلاء الظالمين، فهو على حسب ما كان منهم من ظلم، بلا بغى أو عدوان.
وفي الآية الكريمة- وهى مكية- إشارة إلى مستقبل الإسلام، وإلى ما سيكون بينه وبين أهل الكتاب من تلاحم، بالقول، وبالفعل.
بالجدل بالتي هي أحسن أولا، فإن كان عدوان فبالعدوان: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [41: الشورى].
قوله تعالى: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} هو بيان لمقولة المسلمين، في مقام الجدل بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب، وفي مواجهة غير الظالمين المعتدين منهم.
فالمسلمون يؤمنون بالكتب السماوية إيمانا مجملا، باعتبار أنها من عند اللّه، وأنه إذا كان أهل الكتاب قد غيّروا وبدلوا فيما بين أيديهم من كتب اللّه، من التوراة والإنجيل، فإن هذه الكتب في أصلها حق من عند اللّه، فما كان منها متفقا مع كتاب اللّه آمن المسلمون بأنه من عند اللّه، وما خالف كتاب اللّه، فما على المسلمين شيء منه، وإنما إثمه على الذين بدلوا وحرفوا.
على أنه مهما كان من اختلاف بين أهل الكتاب وبين المسلمين، فإن هناك قضية لا يجوز الاختلاف فيها، وهى الإيمان بإله واحد، هو القائم على هذا الوجود، وهو الذي أرسل الرسل، وأنزل الكتب... فإذا كان من أهل الكتاب من يختلف في هذه القضية، فقد ناقض دعواه بأنه من أهل الكتاب، وقطع السبب الذي يصله باللّه، وبرسول اللّه الذي حمل هذا الكتاب... {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ} [137: البقرة].
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ}.
الخطاب للنبى الكريم، من اللّه سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه قد أنزل عليه الكتاب، كما أنزله على المرسلين من قبله... فهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- كما يدعى إلى الإيمان بما أنزل على رسل اللّه، فقد دعى المرسلون قبله إلى الإيمان بالكتاب الذي أنزل عليه... وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}.
.. فالذين آتاهم اللّه الكتاب، هم الرسل من أصحاب الكتب المنزلة، وفي هذا يقول اللّه تعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [81: آل عمران].
والضمير في قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعود إلى القرآن، وهو {الكتاب} في قوله تعالى {وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ}.
والمشار إليه في قوله تعالى {وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} هم أهل الكتاب المعاصرون للدعوة الإسلامية، و{من} للتبعيض... أي ومن بعض هؤلاء من اليهود والنصارى، من يؤمن بالكتاب، وهو القرآن كما آمن به موسى، وعيسى، والنبيون من قبل.
أما القول، بأن المراد من قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} هم اليهود والنصارى المعاصرون للدعوة الإسلامية، وأن قوله تعالى: {وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} مراد به المشركون من قريش، كما يذهب إلى ذلك المفسرون، قديما، وحديثا، فهذا ما لا نراه، ولا نأخذ به.
فالموقف هنا، في مواجهة أهل الكتاب، ودعوتهم إلى الإيمان باللّه، وبالكتب المنزلة من عند اللّه، كما آمن النبي والمؤمنون، باللّه، ورسله، وكتبه.
هذا، من جهة، ومن جهة أخرى، فإن إيمان النبيين الكريمين موسى وعيسى بالقرآن، هو حجة على أهل الكتاب، وإلزام لهم بمتابعة الرسول الذي حمل إليهم الكتاب الذي يؤمنون به... من التوراة أو الإنجيل، وإلا فهم حارجون على رسولهم، وعلى الكتاب الذي بين أيديهم.
ومن جهة ثالثة، فإن الإشارة إلى مشركى العرب بأنهم آمنوا بالقرآن- لا محصل له في هذا المقام، ولا حجة منه على أهل الكتاب، وحسب القائل منهم أن يدفع هذا بقوله: بأن هؤلاء المشركين أمّيّون، فكيف يكون إيمانهم حجة عليهم.؟ فإن لم يقل قائلهم هذا القول، كان له أن يقول:
إن محمدا هو- إن صح أنه رسول- فهو رسول إلى قومه هؤلاء، وهو حجة عليهم لا علينا!! وهذا قول- وإن كان باطلا- فإن الجدل يتسع له، وخاصة في أول الدعوة الإسلامية، التي كانت دعوتها متجهة أول الأمر إلى العرب، كما يقول سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [2: الجمعة].
ومن جهة رابعة، فإن قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} إذا فهم على ما قرره المفسرون من أنه مراد به أهل الكتاب المعاصرون للدعوة، فإنه يصادم الواقع، إذ أن أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن، لا في عصر النبوة، ولا بعده، وإن الذي آمن منهم به نفر قليل بالإضافة إلى الكثرة الكثيرة التي ظلّت على ما وجدها القرآن عليه.
وليس يشفع لهذا القول، ويدفع عنه هذا التناقض، ما سيق له من تخريجات، كما قيل بأن المراد بقوله تعالى {يُؤْمِنُونَ بِهِ} هو أن من شأنهم أن يؤمنوا، لو أنهم أخلوا أنفسهم من الحسد، والغيرة، لما يلقاهم به القرآن من آيات بينات، تنكشف في أضوائها معالم الطريق إلى الحق، لكل ناظر فيها، ملتمس الهدى منها... وكما قيل أيضا، من أن المراد بالذين يؤمنون به من أهل الكتاب، هم الذين آمنوا فعلا، وهؤلاء وإن كانوا قلة، فإنهم هم كل أهل الكتاب، الذين انتفعوا بالكتاب الذي في أيديهم.
أما غيرهم من أهل الكتاب، فلا حساب لهم..؟!
وهذه لا شك مما حكات، متهافتة، ودعاوى واهية، تتداعى لأية لمسة من نظرة عقل، أو لمحة منطق.
ثم من جهة خامسة، أن قوله تعالى: {وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} لا يصدق على العرب إلا في مرحلة من مراحل الدعوة، وفي بدئها، أما بعد ذلك فقد دخل العرب جميعا في دين اللّه، وآمنوا جميعا باللّه، لا أفرادا معدودين منهم، كما هو منطوق النظم القرآنى: {وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ}! هذا- واللّه أعلم- هو الرأى الذي يستقيم على طريق الآية الكريمة، ويسير في أضواء نظمها المشرق المعجز.
وسنرى، في الآيات التالية ما يزيد هذا الرأى وضوحا وتمكينا.
قوله تعالى: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ}.
هذا الخطاب للنبى الكريم من ربه سبحانه وتعالى، يكشف لأهل الكتاب، الذين كانوا في هذه البيئة الأمية جامعة العلم، وأساتذة طالبيه- هذا الخطاب يكشف لهم عن حقيقة جهلوها وتجاهلوها، وهى أن هذا الأمىّ في الأمة الأمية، لم يكن ممن ألمّوا بشيء من القراءة والكتابة، حتى على هذا المستوي المتواضع الذي كان لبعض نفر قليل من قومه، ممن عرفوا القراءة والكتابة، ومع هذا فهو يحمل في صدره، وعلى لسانه، وبين يديه، كتابا عجبا، يعلو بسلطانه على كل كتاب، ويستولى بعلمه على كل علم، ويقطع بحجته كل حجة، ويقهر بمنطقه كل منطق، ويفحم ببيانه كل بيان!!
فمن أين لهذا الأمى بهذا كله؟.
وإذا كان للأميين المشركين أن يقولوا- جهلا- {إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} وإذا كان لهم أن يقولوا- استبعادا أو استعظاما- إنه أخذ هذا العلم عن بعض العلماء من أهل الكتاب- فماذا يقول أهل الكتاب في هذا الكتاب؟ وإلى أي نسب ينسبونه، وإلى أي عالم منهم يسندونه؟.
إنه لم يجرؤ أحد من أهل الكتاب أن يقول كلمة واحدة في نسب هذا الكتاب إلى علمهم، أو إضافته إلى أحد من علمائهم.. وقد كان لهم- وهم أصحاب العلم- أن يقولوا شيئا من هذا الذي كان يقوله الأميون، لو أنهم وجدوا لهذا القول مكانا- أىّ مكان- ولو من قبيل التلبيس والتشكيك.
فلقد كان المدى بعيدا بين هذه الشمس المتألقة في كبد السماء، وبين الأيدى التي تحاول الإمساك بها، وعقد سحب من الظلام في وجه أضوائها المتدفقة!.
ومن هنا، فإنه لا سبيل لأهل الكتاب أن يرتابوا في نسبة هذا الكتاب إلى اللّه، وأن يقولوا بأن إنسانا أمّيّا، في أمة أمية، يمكن أن يكون هذا الكتاب، أو شيء منه، من عمله... وأنه إذا كان يمكن أن يرد عليهم شيء من الشك في أن إنسانا، قارئا، كاتبا، دارسا، يمكن أن يأتى بمثل هذا الكتاب، فإن مثل هذا الشك يكون مستحيلا، إذا جاء الكتاب على يد أمي، ما عرف القراءة والكتابة، ولا حضر مجالس الدرس والتحصيل.
وقد أثار المفسرون جدلا طويلا حول ما إذا كان الرسول قد عرف القراءة والكتابة بعد البعثة أم لا... وقال كثير منهم إنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- قد عرف القراءة والكتابة بعد بعثته.. وهذا أمر ما كان يصحّ أن يكون موضع بحث أو خلاف، فقد جاء القرآن ناطقا صريحا بأمية النبيّ، وجعل هذه الأمية صفة دالة عليه، يجده عليها أهل الكتاب في كل حال يلقونه عليها. وفي كل زمن يوجهون وجوههم إليه.. فاللّه سبحانه وتعالى يقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ} [157: الأعراف].. والأميّة هنا لا شك هي أمية القراءة والكتابة، أما أمية العلم، فقد كان صلوات اللّه وسلامه عليه- بما علّمه ربّه- عالم العلماء، وحكيم الحكماء، كما يقول سبحانه وتعالى مخاطبا له: {وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [113: النساء].
فكيف إذن يكون النبيّ قد خرج عن صفة الأمية بعد البعثة، وعرف القراءة والكتابة، ثم يكون بهذا حجة على أهل الكتاب الذي يجدون وصفه في التوراة والإنجيل، نبيّا أمّيّا في الأميين؟ ثم ما حاجة النبيّ إلى أن يعرف القراءة والكتابة بعد النبوة؟ أكان ينقل الكتاب الذي بين يديه عن كتب أخرى حتّى يضطره ذلك إلى معرفة القراءة والكتابة؟ أم ماذا؟
لا نجد جوابا!! قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ}.
الضمير {هو} يعود إلى الكتاب. في قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ}.
والذين أوتوا العلم، هم العلماء من أهل الكتاب.
أي أن هذا الكتاب يقع في صدور العلماء من أهل الكتاب موقع المعجزات البينات، حيث تنطق آياته بالحقّ المبين، يتلقاه منها كلّ من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد... وفي هذا يقول اللّه تعالى كاشفا للمشركين عن عنادهم وضلالهم: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ} [197: الشعراء].
أي أنه إذا لم يكن عند المشركين علم يعلمون يعرفون به قدر هذا الكتاب، ويفرّقون به بين ما هو سماوى وما هو أرضى... أفلا كان لهم في علم العلماء من أهل الكتاب، بهذا الكتاب، وإيمانهم به، عبرة يعتبرون بها، ومعلّم من معالم الهدى، يهتدون به إلى هذا الكتاب؟.
وقوله تعالى: {وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ}.
.. إشارة إلى علماء أهل الكتاب، الذين يعرفون الحق في كتاب ثم ينكرونه، من بعد ما عرفوه.
وفي هذا يقول اللّه تعالى: {فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ} [89: البقرة] ووصفهم بالظلم، هو الوصف الحق لهم، إذ كتموا شهادة الحق الذي عرفوه... واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [140: البقرة].
قوله تعالى: {وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
بعد هذه اللفتة العارضة إلى أهل الكتاب، وأسلوب مجادلة المؤمنين لهم، وما عند علمائهم من علم بهذا القرآن- بعد هذا عادت الآيات لتصل الحديث مع المشركين، وتكشف عن مقولة من مقولاتهم الفاسدة الحمقاء في مواجهة الدعوة الإسلامية، ومدعياتهم عليها، وعلى المرسل إليهم بها... فهم يرتابون في أن يكون محمد على صلة بالسماء، وأن يكون هذا الكتاب الذي بين يديه من عند اللّه، وقد أقاموا منطقهم هذا على أنه لو كان هذا شأن محمد، لجاءهم بآية محسوسة، كما جاء الرسل قبله إلى أقوامهم بآيات محسوسة، وفي هذا يقول اللّه على لسانهم: {فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [5: الأنبياء] وقد ردّ اللّه سبحانه وتعالى عليهم بقوله: {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي أننى بشر مثلكم، لا أملك من أمر اللّه شيئا، وإنما أنا نذير مبين أبلغكم ما أرسلت به إليكم.
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
هو ردّ آخر، على ما يقترحه المشركون على النبيّ من آيات، وفي هذا الردّ إنكار عليهم أن يطلبوا آيات مع هذه الآيات التي تتلى عليهم.
إنها آيات لا تغرب شمسها، ولا يخبو ضوءها أبد الدهر.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً} إشارة إلى أن هذه الآيات لا تحمل معها نذر الهلاك الذي تحمله الآيات التي يقترحونها، فإنه لو جاءتهم آية من تلك الآيات لكفروا بها، ثم كان مصيرهم مصير الكافرين المكذبين، كعاد، وثمود، وفرعون! فهذه الآيات القرآنية رحمة من رحمة اللّه بهم.
وفي قوله تعالى: {وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إشارة أخرى إلى أن آيات الكتاب في معرض البحث والنظر، وفي مجال التعقل والتأمل، يعيش معها الإنسان ما يشاء، ناظرا فيها، متأملا مواقع الإعجاز منها، فيجد بهذا طريقه إلى الحق والهدى، إذا كان صالحا لقبول الخير، مستعدا للتجاوب مع الحق!